الضوابـــط التربـــويــة لسير المجالس واللقــاءات التنظيميـــة (2 من 2)
تطرقنا في الجزء الأول من الموضوع إلى خمسة ضوابط تربوية لسير المجالس واللقاءات التنظيمية ، ونكمل في الجزء الثاني منه بقيّة الضوابط ، إضافة إلى جملة من الصفات التي يجب أن يتحلّى بها مسيّرو هذه المجالس واللقاءات والمشرفون عليها ، لتكتمل صورة الموضوع :
6) ــ حسن الاستماع إلى الآخرين :
الإصغاء التام للمتحدث وهو يبدي رأيه من دون ضجيج أو شوشرة أو صخب ، من شأنه أن يزرع بذور الثقة والاحترام ، ويشجع المترددين والخجولين على التكلم والمشاركة ، إذ أن اللامبالاة بالمتكلم يعطي انطباعا له أن الآخرين لا يولون اعتبارا لما سيقوله ، فيصاب بانكسار النفس وجرح الشعور ، مما يدفعه إلى ردود أفعال عكسية ، فالمفروض أن تكون مجالسنا يسودها النظام والانضباط ، ويغلب عليها طابع الجدية والاحترام المتبادل ، حتى تؤتي أكلها وتحقق الأهداف المرجوة منها .
فالمتكلم الجيد في الحقيقة يجب أن يكون مستمعا جيدا ، ومهتما بكل رأي يطرح أو فكرة تقترح أو نصيحة تسدى ، كما قال بن المقفع
تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ، ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه ، وقلة التلفت إلى الجواب ، والإقبال بالوجه والنظر إلى المتكلم والوعي لما يقول )(1).
وقد ذكر ديل كارنيجي في كتابه القيم كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس وصفة بين فيها مساوئ عدم الإصغاء إلى الآخرين ، واللا اهتمام بما يطرحونه فقال
إذا كنت تريد أن ينفض الناس من حولك ويسخروا منك عندما توليهم ظهرك فهاك الوصفة ، لا تعط أحدا فرصة الحديث ، تكلم بغير انقطاع ، إذا خطرت لك فكرة بينما غيرك يتحدث ، فلا تنتظر حتى يتم حديثه فهو ليس ذكيا مثلك فلماذا تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه السخيف ؟
اقتحم عليه الحديث وأعترض في منتصف كلامه)(2).
فخير متحدث هو من يستمع إلى الآخرين بشغف .
7) ــ احترام رأي الأغلبية :
يجب أن يتحرى الواحد الحق ومصلحة الإسلام والدعوة والحركة ، عند إبداء الرأي ، ويتجرد من الأهواء الشخصية ، وعندما لا يؤخذ برأيه الذي أبداه ، فأدب الشورى يحتم عليه أن يحترم الرأي المأخوذ بالأغلبية ، فتعدد الآراء داخل الجماعة أو الحركة جائز بل مؤشر صحة وعامل ثراء ودليل خصوبة ، وللأغلبية أن تختار ما تراه من الآراء المتعددة المطروحة ، دون حرمان صاحب الرأي من الثبات على رأيه مالم يقتنع بغيره ، لكن عليه ألا يعرقل سير الجماعة في إنفاذ ما اختارته ، ولقد أصر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على رأيه في عدم إجازة حمل المسلمين على مصحف واحد كما ذهب إليه أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ، ولكن ابن مسعود لم يعرقل جهود عثمان في إنفاذ ما عزم عليه وأيده الكثيرون من أجلاء الصحابة ، وأثبت التاريخ أنه كان عين الصواب والحكمة .(3)
فإذا رأى الأخ إخوانه مجمعين على أمر لا يراه ، فعليه أن يلتزم رأيهم مالم يقتنعوا بوجهة نظره ، فالخير كله في لزوم الجماعة ، هذا طبعا من دون التحجير على الآراء وبعيدا عن الإقصائية والوصائية والسلطوية .
ــ المجالس بالأمـانة :
وهو جزء من حديث يعني به النبي صلى الله عليه وسلم أن من جلس مع قوم وحدثهم حديثا كان مؤتمنهم عليه ، فإذا تواضع القوم على أن هذا الحديث سر فهم أمناء عليه ، ومن أفشاه فقد خان الأمانة ، وخيانة الأمانة نوع من النفاق الذي لا يتفق مع الإيمان الصادق ، فلا بد أن يعطى هذا الأدب حقه وقدره ، كما أنه يجب الحذر من كشف الأسرار خاصة عند اختلاف وجهات النظر، فمن لا يؤتمن على سر، لا يؤتمن على دعوة أو حركة أو جماعة ، وهذا السلوك قبل ذلك وبعده يحط من قيمة صاحبه وينزل بها إلى الحضيض ، قيل لمحمد بن كعب القرظي
أي خصال المؤمن أوضع له ؟ فقال : كثرة الكلام ، وإفشاء السر ، وقبول قول كل أحد).(4)
أما إفشاء أسرار مجالس أستؤمن عليها الفرد ونشر تفاصيلها ، بمجرد الخلاف أو عندما لا يؤخذ برأيه في النهاية ، فإنه سلوك مشين يسقط مكانة صاحبه كائنا من كان ، وهو يتنافى وأخلاق الرجال ، كما أكد ذلك الإمام الشافعي وهو يتحدث عن خصال الخليل الخائن :
ولا خير في خل يخون خليـله ويلقاه من بعد المـودة بالجفـــــا
وينكر عيشا قد تقادم عهــــده ويظهر سـرا كان بالأمس قد خفا
وجعله الشاعر الحكيم الآخر من موجبات ترك صاحب هذا السلوك ، ومن مبررات التخلي عنه والزهد فيه لمّا قال :
إذا ما المرء أخطأه ثــــلاث فبعه ولو بكف من رمـــاد
سلامة صدره والصدق منه وكتمان السرائر في الفؤاد
9) ــ العدل والإنصـــاف :
عند المشاركة بالرأي في المجالس واللقاءات الدعوية والتنظيمية ، ومناقشة ما يطرح فيها من آراء ومواقف وقضايا ومواضيع ، لابد من التحلي بالعدل والإنصاف ، واستحضار وصية الإمام الشاطبي
ألبس التقوى شعارا ، والاتصاف بالإنصاف دثارا ، واجعل طلب الحق لك نحلة ، والاعتراف به لأهله ملّة ، لا تملك قلبك عوارض الأغراض ، ولا تغير جوهرة قصدك طوارق الإعراض)(5).
فالدفاع عن الرأي ومحاولة إقناع الآخرين به حق مشروع ، ولكن لا يجب أن يتم ذلك بالانحراف عن الحق ومجانبة الإنصاف والشطط في تسفيه وتخطئة آراء الآخرين ، فأجواء هذه المجالس الأصل فيها أنها أجواء أخوة وود وصفاء ، لا مجال فيها للمشاكسة وسوء الأدب وغمط الحق ، وإن اختلفت الآراء وتباينت وجهات النظر ، الذي هو أمر طبيعي ، فالعرب كانت تقول في أمثالها
لا يزال الناس بخير ما تباينوا ، فإن تساووا هلكوا) ، ولكن هذا التباين وهذا النقد وذلك الرد يجب أن لا يقود إلى الخصومة ، ولا يؤدي إلى الكراهية ، بل الأصل بقاء المودة والألفة مادامت النية لله تعالى والمقصد تبيان الحق والوصول إلى الخير وحرص الجميع على مصلحة الدعوة والحركة ، وقد نقل شيخ الإسلام بن تيمية في الفتاوى عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشورة ومناصحة ، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية ، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين)(6).
10) ــ التحلي بآداب المجلس :
وفي الأخير لابد من التحلي بجملة من آداب المجلس ، والتي من بينها :
ــ خفض الجناح ، فقد قال الفضيل
لأن يلاطف الرجل أهل مجلسه ويحسن خلقه معهم ، خير له من قيام ليله وصيام نهاره).
ــ ومنها الابتعاد عن النجوى من دون الآخرين ، فقد ورد في الحديث
إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر ، حتى تختلطوا بالناس أجل أن ذلك يحزنه)( متفق عليه).
ــ ومنها عدم الجلوس في أماكن الآخرين بعد شغلها ، فقد ورد في الحديث كذلك
لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ، ولكن تفسحوا أو توسعوا)( البخاري في الأدب المفرد).
ــ ومنها الاستئذان في الدخول إلى مكان المجلس عند التأخر وعند الانصراف لطارئ .
ــ ومنها عدم التفريق بين اثنين إلا بإذنهما ، كما ورد في الحديث أيضا
لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما)( الترمذي).
ــ ومنها اعتذار البعض للبعض وقبوله والافتراق على ذلك ، فقد جاء في الحديث
من اعتذر إلى أخيه بمعذرة لم يقبلها ، كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس)( ابن ماجه) ، وقال الشاعر :
قيل لي قد أساء إليك فلان وقعود الفتى على الضيم عــار
قلت قد جاءنا فأحدث عذرا ديّة الذنب عندنا الاعتــــــــذار
ــ ومنها عدم الغفلة عن ذكر الله مهما كانت طبيعة هذه المجالس واللقاءات ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه ، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة )(أبو داود) .
ــ ومنها دعاء كفارة المجلس ، فعن أبي برزة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يقوم من المجلس قال
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك )، فقال رجل: يا رسول الله إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى ، قال
ذلك كفارة لما يكون في المجلس )( الحاكم).
صفات مسيري المجالس واللقاءات:
وقبل الانتهاء يحسن الإشارة إلى بعض الصفات التي يجب أن يتصف بها مسيرو المجالس ومديرو اللقاءات كما حددها علم الإدارة الحديث ، حتى تكتمل الصورة :
1 ــ كسب احترام المشتركين في المجلس وثقتهم .
2ــ وضوح الهدف من الاجتماع أو جدول أعمال المجلس في أذهانهم منذ البداية.
3ــ الحياد وعدم إبداء الرأي الشخصي قبل الآخرين .
4ــ الكلام بلغة الحضور ، واستعمال نفس المصطلحات التي يستعملونها.
5ــ وضوح اهتمامه بكل الحاضرين واحترامه لهم .
6 ــ وضوح كلامه وفصاحة لهجته .
7 ــ قدرته على توجيه المناقشات إلى موضوع الاجتماع وتسييره إلى أهدافه.
8ــ قدرته على الإقنـاع.
9ــ إشراك الجميع في المناقشة وإبداء الرأي.
10 ــ إشاعة روح المرح والارتياح.
11ــ الحزم في غير شــدة.
12ــ تجنب أسلوب (يجب عليكم ) ، وإتباع أسلوب (ما رأيكم في ، أو لو، أو أقترح أن).
13ــ الابتعاد عن المجادلة والسخرية والاستهزاء من أحد الحاضرين ، أو تسفيه رأيه .
14ــ التقيد بالوقت وعدم السماح لأحد بإضاعته.
15ــ عدم الظهور بمظهر السيد على الحضور أو التسلط على أفكارهم وآرائهم.
16 ــ قوة الشخصية ، بحيث يكون قادرا على رد الأمور إلى نصابها كلّما وقع التجاوز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1 ــ الندوة العالمية للشباب الإسلامي ، أصول الحوار، ص39.
2 ــ الندوة العالمية للشباب الإسلامي ، نفس المرجع ، ص38.
3 ــ محمد فتحي عثمان ، التجربة السياسية للحركة الإسلامية المعاصرة ، ص31.
4 ــ أبو حامد الغزالي ، إحياء علوم الدين ،ج3 ، ص308.
5 ــ أبو إسحاق الشاطبي ، الموافقات ، ج1 ، ص26.
6 ــ عادل عبد الله شويخ ، مسافر في قطار الدعوة ، ص155.