أثر السريرة على السيرة والمسيرة
أثر السريرة على السيرة والمسيرة
الكاتب: جمال زواري أحمد
إن صلاح السرائر أو فسادها هو الباعث المحدد لطبيعة سيرة الفرد ومسيرته ، والعكس صحيح كذلك ، فسيرة المرء ومسيرته في العمل الإسلامي خاصة ، في أي مجال من مجالاته الدعوية والتربوية والتنظيمية والسياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية وغيرها ، هو التعبير الفعلي والدليل العملي على السرائر ، فهي التي تطبع الفعل والعمل والتحرك والنشاط بطابعها ، وهي التي تخط وتحفر سيرة ومسيرة صاحبها في صفحات الزمان والمكان ، فإن حرص على صلاحها ونقائها وصفائها ، حافظ على سيرته ومسيرته طيبة عطرة إلى أن يلقى ربه كذلك ، وامتدت وأشرقت أنوارها وبارك الله فيها وزكاها إلى أن يلقاه غير مبدّل ولا مغيّر ، وإن أهمل سريرته وتركها من دون تعهّد ورعاية وتفتيش وتهذيب ، كان أثرها على سيرته ومسيرته كارثيا وإن تصدّر المجالس وتقدّم الصفوف ، فإن فساد سريرته سيفضحه ولو بعد حين ، مهما تستر وتمسكن وتمكن ، وهو ميزان دقيق لا يخطئ ، قال فيه الإمام ابن القيم رحمه الله وهو يفسر قوله تعالى
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ )(الطارق9)
في التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة ، وهو أن الأعمال نتائج السرائر الباطنة ، فمن كانت سريرته صالحة ، كان عمله صالحا ، فتبدو سريرته على وجهه نورا وإشراقا وحياء ، ومن كانت سريرته فاسدة ، كان عمله تابعا لسريرته ، لا اعتبارا بصورته ، فتبدو سريرته على وجهه سوادا وظلمة وشينا ، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته ، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته ، ويكون الحكم والظهور لها).(1)
فلو فقهنا هذه القاعدة التربوية والإيمانية في عملنا الإسلامي جيدا ، وراعينا هذا الميزان الدقيق وتحاكمنا إليه ، وعرض كل فرد منا في أي موقع أو مستوى كان ، نفسه وفعله وسلوكه وممارساته وتجاوزاته على هذا الميزان ، بصدق وإخلاص وتجرد ومصارحة وحرص على النجاة ، وداوم على تصحيح سريرته وتنقيتها وإصلاحها ، لتجاوزنا الكثير من أمراضنا التربوية وإختلالاتنا التنظيمية وتجاوزاتنا الحركية ، التي ظهرت وتظهر هنا وهناك ، لأنه في الأول والأخير المسؤولية فردية سلبا أو إيجابا كما قال تعالى
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً )(مريم95).
فمن خلال تأملي ومتابعتي ــ وأرجو أن أكون مخطئا ــ للأمراض والمشاكل والتجاوزات والأزمات والفتن الداخلية ، التي وقعت وتقع في مسيرة العمل الحركي الإسلامي في العديد من الأماكن والأقطار ، وجدت أن أصل الداء فيها والسبب المباشر لوقوع الكثير منها ــ إن لم أقل كلّها ــ ومنطلقها الحقيقي والفعلي ــ مهما تفلسف المتفلسفون وتحذلق المتحذلقون وبرّر المبرّرون ــ هو فساد السرائر أو قل دخولها وغبشها وانحرافها وتكدّرها وتغيّرها وتحوّلها ، الصانع للسيرة والمسيرة أثناء ذلك وبعده ، فالعلاقة وثيقة ووطيدة بين الأمرين كما بيّن وهب بن منبّه رحمه الله ذلك بقوله
ولا تظن أن العلانية هي أنجح من السريرة ، فإن مثل العلانية مع السريرة كمثل ورق الشجر مع عرقها ، العلانية ورقها والسريرة عرقها ، فإن نخر العرق هلكت الشجرة كلها ، ورقها وعودها ، وإن صلحت صلحت الشجرة كلها ، ثمرها وورقها ، فلا يزال ما ظهر من الشجرة من خير ، ما كان عرقها مستخفيا ، لا يرى منه شيء ، كذلك الدين لا يزال صالحا ، ما كان له سريرة صالحة ، يصدّق الله بها علانيته ، فإن العلانية تنفع مع السريرة الصالحة ، كما ينفع عرق الشجرة صلاح فرعها ، وإن كان حياتها من قبل عرقها ، فإن فرعها زينتها وجمالها ، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين ، فإن العلانية معها تزيّن الدين وتجمّله ، إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضا ربه عز وجل).(2)
فكم من عرق منخور (سريرة فاسدة ) وصاحبه لا يعلم أو يعلم ويكابر ، فلم يسقيه بماء المحاسبة ، ولم يداويه بدواء المجاهدة ، ولم يعالجه بالمضادات الحيوية الإيمانية ، ولم يسترجع فيه الروح بالوصفات التربوية والشرعية ، كان سببا في تعفن الثمار (السيرة) وتآكل الأوراق(المسيرة) وتشويه الصورة العامة للشجرة في النهاية.
فتوفيق الله وتسديده ومعيته وبركته وحفظه ورعايته ــ وهو رأس مال كل من سلك ويسلك طريق العمل في سبيل الله ، وسلاحه الذي لا يهزم في موازين المدافعة والصراع ــ ، مرتبط ارتباطا وثيقا بقاعدة السريرة والسيرة والمسيرة هذه ، كما قال ابن عطاء رحمه الله
ورود الأمداد بحسب الاستعداد ، وشروق الأنوار حسب صفاء الأسرار).
وكما قال الفضيل من ناحية أخرى
من استحوذ عليه الهوى وإتباع الشهوات ، انقطعت عنه موارد التوفيق).(3)
فالسرائر النقية الطاهرة هي التي تصنع المسيرة الفاضلة المؤثرة ، وتحقق السيرة الحافلة المشرّفة ، وتكن السبب المباشر لتأثير كلمات صاحبها وإن كانت قليلة ، ويكتب لها الرضا والقبول وإن كانت معدودة ، كما ذكر ابن عطاء أيضا
تسبق أنوار الحكماء أقوالهم ، فحيث صار التنوير وصل التعبير ).
فمن أصلح سريرته ، فاح عبير فضله ، وعبقت القلوب بنشر طيبه ، فالله الله في السرائر ، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر.(4)
فكثيرا ما يفشل الواحد منا وينهزم في معركة ميدان أو زمان في مسيرته العملية للدعوة والحركة على المستوى الفردي أو الجماعي ، فيستحضر عند تشخيصه وتقييمه لذلك كل الأسباب المادية والمبررات الدنيوية ، وينسى أو يتناسى أو يغفل أو يتغافل عن موضوع وقاعدة السرائر هذه ، وقد ذكر صاحب الظلال رحمه الله ذلك بوضوح عندما أكّد أنه عندما نحسم معركة الوجدان(السرائر) ، نستطيع أن نحسم معركة الميدان والزمان .
فلا بد أن نعيد للأمر نصابه ، وندرك أن المنطلق الصحيح والسليم والمأمون العواقب لسيرة عطرة ومسيرة حافلة ومباركة ، هو ما سمّاه ابن القيم ضرورة الولادة مرتين أو الولادة المزدوجة لمّا قال
فإن ّ من لم تولد روحه وقلبه ، ويخرج من مشيمة نفسه ، ويتخلّص من ظلمات طبعه وهواه وإرادته ، فهو كالجنين في بطن أمه ، الذي لم ير الدنيا وما فيها ، فهكذا هو الذي بعد في مشيمة النفس ، والظلمات الثلاث هي : ظلمة النفس وظلمة الطبع وظلمة الهوى ، فلا بد من الولادة مرّتين ، كما قال المسيح للحواريين
إنكم لن تلجوا ملكوت السماء ، حتى تولدوا مرّتين).(5)
ولأهمية موضوع السريرة هذا ودوره الفعّال في تحديد السيرة والمسيرة ، نستطيع أن نفهم لماذا جاءت الروايات عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم لم يسبقوكم بكثرة صلاة ولا صيام ، وإنما بشيء وقر في قلوبهم.
فمن أخلص لله نيته وأصلح على الحق سريرته ، تولاّه الله وملائكته وأبلغه سبحانه أمنيته وبارك في مسيرته ونشر في العالمين عبق سيرته .
أما من فسدت سريرته وتلوّثت وانحرفت ، وغلبت على داخله الشوائب الحالقة ، واستمر في الانحدار، وهو يعلم ذلك ويخفيه عمّن حوله وعن الآخرين ، بل ويظهر عكس ذلك ، أو كما وصفهم الرافعي رحمه الله
هم بألفاظهم في الأعلى ، وبمعانيهم في الأسفل)، واستمرأ المدح والتصفيق والإطراء والتزكية والتبرير رغم كل ذلك ، ولم يكلف نفسه محاسبتها ومراجعتها وتهذيبها وإصلاحها ، لمعرفته اليقينية بها كما قال ابن عطاء
الناس يمدحونك لما يظنونه فيك ، فكن أنت ذامّا لنفسك بما تعلمه منها).
فإن الله سيفضحه ويهتك ستره ولو بعد حين ــ عياذا بالله ــ لأنه
من خان الله في السر (السرائر) ، هتك ستره في العلانية) ، كما قال يحي بن معاذ رحمه الله.
ولفساد السريرة أيضا تأثيرا بالغا حتى على المردود العملي لعبادات المرء ، فالقلب الذي سيطرت عليه نوازع الكبر والضغائن والأحقاد(فساد السرائر) ، أعجز من أن يمدّ الطاعات والعبادات الظاهرة بشريان العبودية لله تعالى ، وإذا انقطعت روافد العبودية ممّا بين قلب المسلم وظاهر طاعته ، لم تعد فيها أي قدرة على تقريب صاحبها إلى الله جل جلاله ، ولم يبق فيها أيّ وقاية تحجزه عن مطارح الدنيا ومنزلقات الشياطين والأهواء ، وعاد شأنها كالثمار التي ألصقت إلصاقا بأشجار يابسة ، هل ينتظر بها إلا الذبول والفساد..(6)
ومن النتائج الخطيرة لفساد السرائر أيضا هو تخريب وإعطاب منطقة الحال ، فينقطع الاتصال بين منطقتي الفهم والإدراك من ناحية ، والممارسة والسلوك من ناحية ثانية ، فيصبح القلب من القسوة والمرض والمعاناة إلى الحد الذي لا تحركه معها موعظة واعظ ، ولا تذكرة مذكّر، ولا ينفعه معها تحذير ولا ترغيب ولا ترهيب ، إذ يقع الانفصال بذلك بين العقل والقلب ، فيدرك العقل دون أن يتأثر القلب ، يخضع الأول دون أن يلين الثاني ، وهيهات أن يملك العقل وحده قيادة السلوك في حياة الإنسان ، ذلك أن الأثر الأعظم إنما هو للقلب ، الذي هو ينبوع الرغائب والعواطف كلها.(7)
ونظرا لخطورة أمر السريرة وتأثيره البالغ سلبا أو إيجابا على سيرة العبد ومسيرته ، فإنه ينبغي عليه وبشكل دائم ومستمر ، أن يسقي سريرته بماء الإيمان ويحفظها صالحة سوية باستجلاب رعاية الرحمن ، وينمّيها بفيض الإحسان ، لأنه
ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية ، إلا بإتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب).(
فلا ينبغي أن يغالط المرء نفسه ، ويقدم لها التبريرات ويصنع لها الأعذار ، ويقلب لها الحقائق ، وتلتمس منه الاستئناس والموافقة ، عند تجاوزه وغلبة شهوته وسيطرة هواه وارتكابه المخالفات بل والكوارث في بعض الأحيان ، في حق نفسه ودينه ودعوته وجماعته وحركته وإخوانه ، ثم يفلسف كل ذلك بحجج تصحيح المسار والحرص على المبادئ والفرار بالمنهج والثبات على الأصول والوفاء للمؤسس والمؤسسات ، أو تحت تبريرات الإصلاح والحفاظ على الحركة وتجاوز الترهل والتخلص من البطء والتردد وتحقيق الأهداف بشكل أفضل وهكذا ، وهو لو كان صريحا مع هذه النفس الأمّارة وألجمها بلجام المجاهدة والمحاسبة ، واختلى بها خلوة إيمانية تربوية ، وخالفها ولم يثق بها ، واتهمها ولم يأمن مكرها وتدليسها وسعيها الحثيث لتوريطه ، لأنه كما قال التابعي عبدة بن أبي لبابة رحمه الله
أقرب الناس إلى الرياء أأمنهم له).(9)
لعله لو فعل كل ذلك بصدق وإخلاص وتجرد ، لوجد أن السبب الرئيس في معظم ذلك ، ما هو إلا الخلل في موضوع السريرة هذا ، فكل هذه الاعتبارات جميلة ومقبولة ، إذا ما روجعت السرائر أولا بشكل صريح ومبدأي دون مزايدة أو التفاف أو تحوير ، ودون تغافل عنها أو الضحك بها على النفس وعلى الآخرين ، وإلا فهي كما قال الجنيد رحمه الله
انظر ماذا خالط قلبك ) ، فهي أخلاط وشوائب تعكر الصفاء وتكدّر النقاء وتلوّث الوعاء وتمنع تأثير الدواء وتؤخر وتبعد تحقيق الشفاء .
فلا سيرة نافعة ولا مسيرة حافلة ، إذا لم تسبقهما و ترافقهما سريرة صالحة ، فإن للّسريرة أثرا كبيرا على السيرة والمسيرة ، فحدّد نوع سيرتك ومسيرتك من خلال حال سريرتك ، وأستفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك.