أوجه الشبه بين دعوة الإمامين البنا وابن باديس
من مشكاة واحدة
أوجه الشبه بين دعوة الإمامين البنا وابن باديس
الكاتب : جمال زواري أحمد
ونحن نعيش في أجواء الذكرى الواحدة والسبعين لوفاة العلاّمة عبد الحميد بن باديس(16 أفريل 1940م) ، والذكرى الثمانين لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين(05 ماي 1931) ، نريد أن نلقي الضوء على زاوية لازالت مجهولة لدى الكثيرين من أبناء الحركة الإسلامية ، والكتابات فيها كذلك قليلة ومختصرة ــ إن وجدت ــ ، ألا وهي العلاقة بين مدرستي الإخوان المسلمين وجمعية العلماء ، وكذا أوجه الشبه بين دعوة الإمامين الكبيرين حسن البنا وعبد الحميد بن باديس رحمهما الله تعالى ، فقد أشار الأستاذ محمود عبد الحليم رحمه الله في كتابه
الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ) إلى بعض صور هذه العلاقة في فقرة مختصرة جدا قال فيها
أن الإمام حسن البنا كان يؤيد خطة ابن باديس في عرقلة الأسلوب الفرنسي في القضاء على اللغة العربية وقطع الصلة بين الشعب الجزائري والقرآن الكريم ، وذلك بنشر اللغة العربية وإنشاء المدارس مهما لقيه من مصاعب وأهوال ، وكان الإمام حسن البنا كثيرا ما يبعث الرسائل والبرقيات لشدّ أزر السيد عبد الحميد ، كما كان يكتب المقالات الضافية في مجلة الإخوان لهذا الغرض ، ويعلن الاحتجاج على السلطات الفرنسية لمصادرتها لمدارس السيد عبد الحميد واضطهاد رجاله العاملين معه).
هذا إلى جانب الصفحات المشرقة التي سطّرها الأستاذ الفضيل الورتلاني رحمه الله الذي كان همزة وصل بين الفكرتين ومحور الربط بين المنهجين وعنصر الاشتراك بين الإمامين.
هذا الرجل الفذ صاحب الفكر الباديسي الخالص ، كان من أنجب تلاميذ الإمام ابن باديس ومن خاصة معاونيه ، فقد أولاه الإمام عنايته واعتمد عليه في كثير من المهام الكبيرة ، فكان يعوض أستاذه في العديد من الاجتماعات والمناسبات وهو مازال طالبا وأسند له تمثيل جريدة الشهاب ، وكان يصطحبه معه كظله أينما حلّ وارتحل ، وقد انتدبه في سنة 1936م للقيام بنشر الدعوة الإصلاحية في فرنسا ، التي أسس بها ما يزيد عن ثلاثين مركزا للجمعية ، الأمر الذي أقلق السلطات الفرنسية فضايقته ، فأنتقل إلى مصر سنة 1940م ، والتي أسس بها مكتب جمعية العلماء ، وأثناء وجوده بمصر تفاعل مع فكر الإمام البنا وأصبح من مقربيه كذلك ، حتى وصل إلى درجة استخلافه في درس الثلاثاء في بعض الأحيان بالمركز العام ، وبلغ تجاوب الورتلاني مع الفكر والتنظيم الإخواني إلى الحد الذي يكلفه فيه الإمام البنا بفتح فروع وشعب الإخوان في الكثير من المناطق المصرية .
وقد عرف الإخوان وفي مقدمتهم الإمام البنا قيمة الفضيل الورتلاني وقدره ــ وهو ابن جمعية العلماء والتلميذ النجيب لإمامها ــ وقدّموه عليهم ووثقوا فيه واعتبروه واحدا منهم ومن خاصة رجالهم ، فكلفه الإمام البنا بما عرف بقضية اليمن ، وبعد فشل ثورته ركب قاربا وظل يطوف به ولم يسمح له بالنزول في كل من اليمن وسوريا ومصر والأردن إلى أن توسط له الإمام البنا فنزل في لبنان.
فمن خلال دراستنا لسيرة ومسيرة الإمامين الدعوية ، وجدنا الكثير من أوجه الشبه والتطابق بينهما تؤكد أنهما كانا يصدران من مشكاة واحدة ، ومن أوجه الشبه هذه :
1) ــ أصول دعوتهما :
فقد وضع الإمام ابن باديس لجمعية العلماء أصولا وحدّدها بعشرين أصلا والتي نشرها سنة 1936م ، وهو الأمر نفسه الذي فعله الإمام البنا حينما وضع لدعوة الإخوان أصولا عشرينا كذلك ، فيظهر توافق الإمامين حتى في عدد الأصول التي حدّدها كل منهما لدعوته.
2) ــ الشمول فهما وممارسة :
كما اتفق الإمامان في فكرة شمول الإسلام فهما وتصورا وممارسة وتطبيقا ، أما من ناحية الفهم والتصور ، فيقول الإمام البنا في الأصل الأول من الأصول العشرين
الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا ، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء ، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة ، سواء بسواء).
وبنفس المعنى تقريبا يقول الإمام ابن باديس
إن الإسلام عقد اجتماعي عام ، فيه كل ما يحتاج إليه الإنسان في جميع نواحي حياته لسعادته ورقيّه).
ولم يكتفي الإمامان بالتنظير لفكرة الشمول ، بل مارساه وطبقاه عمليا ، فقد كتب الإمام ابن باديس ودرّس وحاضر وخطب في كل صنوف العلم ، حيث أتم تفسير القرآن الكريم كاملا ، كما كتب في الحديث وعلومه والسيرة والتراجم والفقه والعقائد ، كما كتب في الفقه السياسي الإسلامي وأبدى رأيه في كل القضايا السياسية المحلية والإقليمية والدولية التي عاصرها ، فكان بحق شموليا في نظرته للإسلام سواء من الناحية العلمية أو من ناحية الممارسة العملية ، بحيث اهتم بالتربية والتعليم وإنشاء المدارس والمساجد والنوادي العلمية والثقافية ، كما اهتم بالإعلام فأنشأ الصحيفة تلو الصحيفة ، كما اهتم بالفن والترفيه فشجع على إنشاء الفرق الفنية والمسرحية ، كما اهتم بالشباب والطلبة ، فساهم في إنشاء الحركة الكشفية والفرق الرياضية ، كما اهتم بالجالية والمغتربين في فرنسا وأوربا والمشرق العربي وتونس والمغرب وليبيا ، بحيث بعث لهم البعثات العلمية وفتح لهم المدارس والنوادي الثقافية ، وهكذا ممّا يظهر أنه كان للإمام ابن باديس نظرية دعوية شاملة ومتكاملة لم يهمل فيها جانب دون جانب ، وهو الأمر نفسه الذي فعله الإمام البنا بحيث اهتم هو كذلك بكل الجوانب والمجالات التي ذكرناها وأوجد للفكرة الإخوانية موضع قدم في كل منها .
3) ــ العمل الجماعي المنظم :
لقد حرص الإمامان منذ البداية على فكرة العمل الجماعي المنظم ، من خلال جماعة أو جمعية أو هيئة ، يتحركان من خلالها لتحقيق الأهداف التي سطّراها في دنيا الناس وواقع الأمة ، فأسس الإمام البنا جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928م ، وأسس الإمام ابن باديس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931م ، ومن عجيب التوافق بينهما أن كل منهما أطلق على فروع الجماعة والجمعية اسم الشعبة.
وأنا أبحث في الموضوع وجدت نصا للإمام ابن باديس وهو يتحدث عن أهمية العمل الجماعي المنظم لا يختلف فيه عن أي مقولة للإمام البنا أو غيره من علماء الإخوان وهم يؤصلون لنفس الفكرة يقول فيه
إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله ، إذا كانت لهم قوة ، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبّر وتتشاور وتتآزر لجلب المصلحة ولدفع المضرّة ، متساندة في العمل عن فكر وعزيمة).
4) ــ تأليف الرجال بدل تأليف الكتب :
لقد كان كل منهما يردّ على من يطلب منه التأليف للكتب في فنون العلم الشرعي المختلفة ــ وهما من مجدّديه ــ بنفس العبارة تقريبا
شغلنا بتأليف الرجال عن تأليف الكتب) ، فقد قال الإمام البنا في ذلك
إنني لا أولف كتبا ، يكون مصيرها تزيين الرفوف وأحشاء المكتبات ، وإنما مهمتي أن أؤلف رجالا أقذف بالرجل منهم في بلد فيحييه ، فالرجل منهم كتاب حي ينتقل إلى الناس ويقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم ، ويبثهم كل ما في قلبه ونفسه وعقله ، ويؤلف منهم رجالا ، كما ألّف هو من قبل).
أما الإمام ابن باديس فقد قال في الكلمة التي ألقاها بمناسبة الاحتفال بختمه لتفسير القرآن الكريم
فإننا والحمد لله نربّي تلامذتنا على القرآن من أول يوم ، ونوجّه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم ، وغايتنا التي ستتحقق ، أن يكوّن منهم القرآن رجالا كرجال سلفهم ، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلّق هذه الأمة آمالها ، وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودها).
5) ــ الوطنية الصادقة :
لقد تجلّت وطنية الإمامين في الكثير من مواقفهما العملية في تعاملهما مع قضايا وطنهما في حياتهما ، وهذه المواقف ماثلة للعيان لكل دارس لسيرتهما ، أما من الناحية التنظيرية ، فإن الإمام البنا يقول عن فكرة الوطنية
إن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة ــ الوطنية ــ لا مناص منها ، أن يعمل كل إنسان لخير بلده وأن يتفانى في خدمته ، وأن يقدم أكثر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها..
فكل مسلم مفروض عليه أن يسدّ الثغرة التي عليها ، وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه ، ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية وأعظمهم نفعا لمواطنيه..).
أما الإمام ابن باديس فيقول عن ذلك
نحب من يحب وطننا ويخدمه ، ونبغض من يبغضه ويظلمه ، فلهذا نبذل غاية الجهد في خدمة وطننا الجزائر وتحبيب بنيه فيه ، ونخلص لكل من يخلص له ، ونناوئ كل من يناوئه من بنيه ومن غير بنيه).
6) ــ نظرتهما للاختلاف :
كذلك من أوجه الشبه والتوافق بين الإمامين نظرتهما للاختلاف الفروعي في الأمة ، فالإمام البنا يقول عنه
الخلاف في الفرعيات أمر ضروري لا بد منه .. وليس العيب في الخلاف ، ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر على عقول الناس وآرائهم .. وحسب الناس أن يجتمعوا على ما يصير به المسلم مسلما).
وهو الذي حفل بقاعدة أستاذه العلامة رشيد رضا التي قال فيها
نعمل فيما اتفقنا فيه ، وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه) ، حتى عدّها الكثيرون من كلام الإمام البنا لكثرة ذكره واستعماله لها .
أما الإمام ابن باديس فيقول عن الاختلاف الفروعي
أن لا نجعل القليل ممّا نختلف فيه ، سببا في قطع الكثير ممّا نتفق عليه ، وأن الاختلاف بين العقلاء لابد أن يكون ، ولكن الضار والممنوع المنع البات هو أن يؤدّينا ذلك الاختلاف إلى الافتراق).
7) ــ سعة الصدر وقبول الآخر :
وقد ظهر ذلك جليّا في أقوال الإمامين وسلوكهما وسيرتهما العملية ، أما الإمام البنا فيقول في الأصل السادس
...ولكننا لا نعرض للأشخاص ــ فيما اختلف فيه ــ بطعن أو تجريح ونكلهم إلى نياتهم ، وقد أفضوا إلى ما قدّموا) ، ويوصي في إحدى وصاياه العشر ب
عدم غيبة الأشخاص وتجريح الهيئات).
أما الإمام ابن باديس فيقول عن نفسه
.. إن هذا العبد له فكرة معروفة ، وهو لن يحيد عنها ، ولكنه يبلّغها بالتي هي أحسن ، فمن قبلها فهو أخ في الله ، ومن ردّها فهو أخ في الله ، فالأخوة في الله فوق ما يقبل وما يردّ).
أما من الناحية العملية ، فقد تعامل الإمامان وتحاورا وتعاونا مع الجميع في وقتهما ، ممّا جعلهما محلّ ثقة واحترام وتقدير الجميع ، حتى من يختلف معهما ، فكان كل منهما رجل وطن وأمة وعامّة ، وليس رجل هيئة أو جمعية أو جماعة أو طائفة.
ــ نظرتهما للسياسة :
لقد اتفقا الإمامان كذلك في نظرتهما للسياسة والموقف منها ، فالإمام البنا يقول عنها
المسلم لن يتم إسلامه ، إلا إذا كان سياسيا ، يعيد النظر في شؤون أمته مهتما بها غيورا عليها .. وأن على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمتها السياسية ، وإلا كانت تحتاج هي نفسها إلى أن تفهم الإسلام ).
أما الإمام ابن باديس فيقول
وكلامنا اليوم عن العلم والسياسة معا ، وقد يرى بعضهم أن هذا الباب صعب الدخول ، لأنهم تعوّدوا من العلماء الاقتصار على العلم والابتعاد عن مسالك السياسة ، مع أنه لا بد لنا من الجمع بين السياسة والعلم ، ولا ينهض العلم والدين حق النهوض ، إلا إذا نهضت السياسة بجد).
وقد مارساها عمليا ، أما الإمام البنا فقد كان يتفاعل مع كل القضايا السياسية في عهده ، وترشح للمجلس النيابي مرّتين ، كما أن الإمام ابن باديس كان هو أيضا يتفاعل ويبدي الموقف من كل القضايا السياسية المطروحة في وطنه وأمته في ذلك الوقت ، وترأس وفد المؤتمر الإسلامي سنة 1936م الذي ذهب للتفاوض مع الحكومة الفرنسية الاستعمارية حول الحقوق الدينية والمدنية والسياسية والاجتماعية للجزائريين.
9) ــ الاهتمام بالمرأة :
لقد حرص الإمامان كذلك على العناية بالمرأة والاهتمام بها ، بحيث أنشأ الإمام البنا قسم الأخوات المسلمات مبكرا ، ليكون الحاضن للمرأة المصرية والمهتم بقضاياها والناشر للفكرة الإسلامية بين صفوفها وتوظيفها لخدمتها .
أما الإمام ابن باديس فقد حرص منذ البداية كذلك على تعليم المرأة وتربيتها ، فأنشأ المدارس في كل ربوع الوطن وشجّع الفتيات على الالتحاق بها ، وحاول إرسال بعثات منهن للمشرق العربي لإكمال تعليمهن بالتوازي مع البعثات الرجالية ، وقد ذكر الإمام أنه
لن ينهض المسلمون نهضة حقيقية إسلامية ، إلا إذا شاركهم المسلمات في نهضتهم ، في نطاق عملهن الذي حدده الإسلام ، وعلى ما فرضه عليهن من صون واحتشام).
10) ــ الاهتمام بقضايا العالم الإسلامي :
كما اتفق الإمامان في درجة اهتمامهما بقضايا العالم الإسلامي في وقتهما ، فالإمام البنا أسس مبكرا قسم العالم الإسلامي في مكتب الإرشاد ، بحيث كان المركز العام في تلك الفترة مأوى ومحج كل زعماء العالم الإسلامي وقادة التحرر فيه من جاكرتا إلى طنجة ، أما مساهمة الإمام ومعه الإخوان في نصرة قضية فلسطين فأمر معلوم للجميع ، وجهادهم الذي دوّخ الصهاينة مازالت أصداؤه تدوي إلى الآن.
أما الإمام ابن باديس فرغم أن بلاده كانت تحت الاحتلال ، إلا أنه كان هو أيضا ومعه الجمعية يتفاعل بشكل إيجابي مع كل قضايا العالم الإسلامي التي كانت في وقته ، والقارئ لآثاره يجد الكثير من المواقف التي أبداها وبرقيات النصرة لجهاد المختار في ليبيا وكذا قضايا المغرب وتونس ومصر وتركيا والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى ، وكذلك تحذيره من المؤامرة التي كانت تحاك ضد فلسطين قبل قيام ما يعرف بدولة الكيان الصهيوني ، ولقد كان الإمامان على علاقة بالحاج أمين الحسيني مفتي القدس عن قرب بالنسبة للإمام البنا وعن بعد بالنسبة للإمام ابن باديس.
هذه عشرة جوانب كاملة تبين أوجه الشبه في مواقف ودعوة الإمامين حسن البنا وعبد الحميد ابن باديس ، وهناك جوانب أخرى كثيرة يتشابهان إن لم نقل يتطابقان فيها لا شك ، في حاجة للبحث والتنقيب ، تؤكد الرابطة الوثيقة بين الفكرتين والعلاقة المتينة بين المدرستين والشبه الكبير بين الرجلين .
وفي الأخير لا يسعنا إلا أن نترحم على الإمامين الكبيرين ، ونعاهدهما على الثبات على منهجهما ، والمضي قدما على خطاهما للتمكين للأفكار والمبادئ التي جاهدا في سبيلها وماتا من أجلها ، إلى أن نلحق بهما ونحن على ذلك غير مبدّلين ولا مغيّرين ، فقد قيل للحسن البصري رحمه الله: سبقنا القوم (أي الصحابة) على خيل دهم ونحن على حمر معقرة ، فقال
إن كنت على طريقهم ، فما أسهل اللحاق بهم).