أنزل الله سبحانه – وتعالى – كتابه الكريم على النبي -صلى الله عليه و سلم- في ليلة القدر، التي كرمها الله – تعالى – وأنزل سورة في القرآن الكريم تحمل اسم القدر، فقال :
" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4)سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)" (القدر:1-5)
ولقد بدأ نزول القرآن العظيم على النبي -صلى الله عليه و سلم- منذ ليلة القدر، ونزل في قرابة ثلاث وعشرين سنة، منذ نزول الوحي على النبي -صلى الله عليه و سلم- في غار حراء وحتى وفاته -صلى الله عليه و سلم- .
ولقد نزل القرآن الكريم أول ما نزل منجمًا أي مفرقًا ليسهل على المسلمين حفظه، وكان من عادة النبي -صلى الله عليه و سلم- إذا نزل عليه شيء من القرآن أمر كتاب الوحي أن يضعوا هذه الآية في مكانها ، وقبل وفاة النبي -صلى الله عليه و سلم- قرأ "جبريل" القرآن على (النبي) -صلى الله عليه و سلم- بترتيبه المعروف الذي عليه جميع المصاحف الآن، وقد تكفل الله بحفظه حتى قيام الساعة قال تعالى :
"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)" (الحجر:9)
وقد تحمل الرسول -صلى الله عليه و سلم- أعباء الرسالة وسلك طرقًا متعددة لحفظ القرآن وتثبيته في نفسه ونشره بين الناس .
فكان النبي -صلى الله عليه و سلم- كلما نزلت عليه سورة يجهد نفسه في ترداد ما نزل عليه ؛ حرصًا على تثبيته في الذاكرة فنزل قوله – تعالى - :
ِ"لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)" (القيامة 016-018)
فكان النبي -صلى الله عليه و سلم- كلما نزلت عليه آية أو سورة يأمر كتاب الوحي بكتابتها فور نزولها، ويبلغها أصحابه ، فيحفظونها من فورهم ، ثم يتلون على النبي -صلى الله عليه و سلم- ما حفظوه ليثبتوا من حفظهم ، فإذا انتهوا من قراءته على النبي -صلى الله عليه و سلم- ذهبوا يعلمونه لإخوانهم ممن لم يشهدوا النزول ، وبهذا حفظ القرآن الكريم الكثير من الصحابة ، وقد ساعدهم على الحفظ قوة العقيدة وقوة الذاكرة إلى جانب نقاء الصحراء وصفاء النفوس وقلة الكتابة فيهم .
كما كانت قراءة النبي -صلى الله عليه و سلم- القرآن في الصلاة عندما يؤم أصحابه عاملاً قويًّا من عوامل الحفظ والتثبيت لديهم .
وهناك وسيلة أخيرة وهى التي كان يشترك فيها "جبريل" مع النبي -صلى الله عليه و سلم- ، فقد كان النبي -صلى الله عليه و سلم- يقرأ القرآن على "جبريل" في شهر "رمضان" مرة كل سنة ، وفى سنة وفاته عرضه عليه مرتين ، وقد جمع النبي -صلى الله عليه و سلم- الصحابة قبل وفاته فقرأ عليهم القرآن كله القراءة الأخيرة .
• جمع القرآن في عهد "أبى بكر" – رضى الله عنه- :
كان القرآن في عهد النبي -صلى الله عليه و سلم- مكتوبًا في الرقاع وغيرها ، وإنما لم يجمع في مصحف واحد لقصر المدة بين آخر ما نزل من القرآن وانتقاله -صلى الله عليه و سلم- إلى الدار الآخرة ، ولا يتصور جمع القرآن كله في مصحف واحد في عهد استمرار نزول الوحي .
وفى زمن "أبى بكر" - رضى الله - عنه تجلت ضرورة جمع القرآن ، وأول من تنبه لذلك "عمر ابن الخطاب" - رضى الله –عنه- ، وذلك أنه لما استشهد كثير من القراء في معركة "اليمامة " (وهى اسم بلاد من نجد ظهر فيها "مسيلمة الكذاب" ) ، خشي "عمر بن الخطاب" أن يشيع القتل فيهم في معارك أخرى ، فيتعذر حينئذ ضبط القرآن وتلاوته على الكيفية التي أنزل بها ، فاهتم لذلك وأسرع إلى "أبى بكر الصديق" - رضى الله عنه - وكان ذلك بعد سنتين من خلافته وحدثه بالأمر فقال : إني أرى أن تأمر بجمع القرآن .
فقال "أبو بكر" : كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه و سلم- ؟!
فقال "عمر" : هو والله خير .
فما زال يراجعه في ذلك حتى شرح الله صدر "أبى بكر" للذي شرح له صدر "عمر" ، ثم أرسل "أبو بكر" إلى "زيد بن ثابت" وهو من كتاب الوحي فلما جاء "زيد" قال له "أبو بكر" : إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه و سلم- فتتبع القرآن فاجمعه .
قال زيد : فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل على مما أمرني به من جمع القرآن ، ثم قال لأبى بكر و"عمر" : كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه و سلم- ..؟! فقال "أبو بكر" : هو والله خير . فلم يزل يراجعه حتى شرح الله صدره للذي شرح له صدر "أبى بكر" و"عمر" - رضى الله عنهم- فجمع زيد القرآن كله من الجلود وجريد النخل وعظام أكتاف الإبل التي كتب عليها القرآن بين يدي رسول الله -صلى الله عليه و سلم- بحضور من الصحابة - رضوان الله عليهم- على القراءة الأخيرة وبالترتيب والضبط الموحى بهما من الله عز وجل ، وكان زيد لا يكتب أو لا يدون من أحد شيئًا من القرآن حتى يشهد شاهدان على أنه تلقاه سماعًا من النبي -صلى الله عليه و سلم- وكتبه بين يديه ، وكان ذلك الجمع الذي قام به زيد تحت إشراف عدد كبير من الصحابة الحفظة المشهود لهم بالضبط والإتقان والحفظ كأبى ّبن كعب و"على بن أبى طالب" و"عثمان بن عفان" رضى الله عنهم .
ولما أتم "زيد" جمع القرآن كله في صحف سلمها للخليفة الأول "أبى بكر الصديق" – رضى الله عنه- فكانت عنده مدة حياته ، ثم كانت عند الخليفة الثاني "عمر بن الخطاب" رضى الله عنه ، وبعد وفاته بقيت عند ابنته "حفصة " زوجة النبي -صلى الله عليه و سلم- ؛ لأن "عمر" قد جعلها وصية له على ما ترك بعد وفاته .
وهكذا تم بفضل الله جمع القرآن كله كما نزل على "جبريل" على النبي -صلى الله عليه و سلم- ، وهذا عناية من الله وتصديق لوعده بحفظه :
"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)" (الحجر:9)
• جمع القرآن في عهد "عثمان" :
وفى عهد "عثمان بن عفان"- رضى الله عنه - ازدادت الفتوحات الإسلامية ، وانتشر الصحابة في البلاد يعلمون الناس دينهم ويحفظونهم كتاب ربهم .
وكان "حذيفة بن اليمان"- رضى الله عنه - يغزو مع أهل "الشام" و"العراق" في فتح "أرمينيا" و"أذربيجان" ، فأفزعه ما رآه من اختلاف في القراءة ، فأهل "الشام" يقرءون القرآن بقراءة"أبى بن كعب" وأهل "العراق" يقرءون بقراءة "عبد الله بن مسعود" وكلها قراءات صحيحة ، فقال يا أمير المؤمنين ، أدرك الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل "عثمان" إلى "حفصة" - رضى الله عنها - أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ، فأرسلتها "حفصة" إلى "عثمان " فأمر "زيد بن ثابت" وهو من الأنصار ، و"عبد الله بن الزبير" و"سعيد بن العاص" ، و"عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" وهؤلاء الثلاثة من "قريش" ، أمرهم بكتابة نسخ من القرآن ليرسلها إلى البلاد ويقضى بذلك على الاختلاف الذي ظهر في القراءة ، وقال للثلاثة القرشيين :
إذا اختلفتم أنتم و"زيد بن ثابت" في شيء من القرآن – أي في كتابته – فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا ، وقد استمر عملهم هذا في نسخ المصاحف مدة خمس سنوات من سنة (25 ﻫ) حتى (030 ﻫ) ، حتى إذا نسخوا الصحف إلى المصاحف رد "عثمان" المصحف إلى "حفصة" ثم أرسل "عثمان" المصاحف المنسوخة إلى : "مكة" و "البصرة" و "الكوفة" و"الشام" و "اليمن" و"البحرين" وترك عنده في المدينة مصحفًا، وأمر بحرق ما سواها من الصحف والمصاحف ، وقد اشتهر ما كتب من المصاحف بأمر "عثمان" - رضى الله عنه- بالمصحف الإمام أو مصحف "عثمان".