هل شاهدت
مسجدًا عظيم البناء واسع الأرجاء ، له مئذنة عالية الارتفاع وقباب جميلة ؟ وسألت
نفسك: من قام على بناء هذا المسجد ؟
هل يمكن
أن يقوم بذلك فرد واحد ؛ أم قام به أفراد كثيرون ، تعاونوا فيما بينهم حتى ظهر هذا
البناء ؟
لا شك أن
هذا المسجد ثمرة تعاون المهندسين ، والبناءين، والنجارين، والحدادين، وغيرهم ..
وهذا
التعاون من أهم الصفات التي تتصف بها الكائنات جميعًا في الكون ، فلا يستطيع كائن
أن يحيا بمفرده دون أن يكون في حاجة إلى مساعدة أخيه ، فالطيور تعيش في جماعات
وتتعاون فيما بينها ، والحيوانات- أيضًا- تعيش في جماعات ترعى معًا ، وتخرج للصيد
معًا .
والإنسان
لا يمكن أن يعيش إلا متعاونًا مع غيره ، فكل منا يحتاج الآخر ، فأنت تحتاج إلى
الطبيب والمهندس والمعلم ، والصانع والخباز ، والنجار والحداد ، وسائق الطائرة
والقطار، ولا يوجد إنسان يجيد كل تلك الأعمال ، فكل صاحب مهنة محتاج إلى غيره ،
بهذا تسير الحياة وتدور حركتها ، وبغير ذلك تتوقف الحياة ولا تتقدم إلى الإمام .
·
المؤمنون أخوة :
وقد دعا الإسلام إلى التعاون ، ورغب الناس فيه؛
حرصًا على ترابط المسلمين وتماسك
وحدتهم ، فقال تعالى :
"وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ
وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ و َالْعُدْوَانِ"
(المائدة :2)
وقال- صلى الله عليه وسلم- : "المسلم أخو
المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه كان
الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من
كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة"
. (رواه البخارى)
وقد فهم
المسلمون معنى التعاون منذ أن بدأ النبي- صلى الله عليه وسلم- دعوته في مكة ، فتعاونوا في نشر
الإسلام ، ودعوة من يرون فيه خيرًا واستجابة للإسلام، وبفضل تعاونهم دخلت أفراد
جديدة إلى الإسلام . وكان "أبو بكر الصديق" أبرز من عاون النبي- صلى
الله عليه وسلم- في نشر الإسلام ، فأسلم على يديه "عثمان بن عفان" ،
و"عبد الرحمن بن عوف" و"أبوعبيدة بن الجراح" ، وغيرهم .
· النبي- صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في
التعاون :
كان النبي
محمد- صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في التعاون، سواء أكان داخل بيته أم مع
أصحابه ... كان متعاونًا في كل أحواله ، في البيت
يساعد أهله، ويعاونهم في شئون المنزل، وفى خارج البيت يتعاون مع
أصحابه في القيام ببعض الأعمال بهمة ونشاط. بعد هجرة
النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بدأ في بناء مسجد للمسلمين يصلون فيه ،
ويجتمعون فيه لبحث شئون حياتهم ، واشترك النبي
بنفسه في البناء، فكان- صلى الله عليه وسلم- يحمل مثل أصحابه
التراب
والطوب ، وكان عمره في ذلك الوقت - وهو يعمل - ثلاثًا وخمسين سنة ، ولم تمنعه سنه
ولا مكانته العالية من أن يتعاون مع أصحابه في بناء المسجد ، وظل يعمل معهم حتى
اكتمل بناء المسجد ، الذي كانت أعمدته من جذوع النخل ، وسقفه من الجريد .
موقف آخر
قام به النبي- صلى الله عليه وسلم- مع
أصحابه في غزوة الخندق ، وهى الغزوة التي تحالفت فيها "قريش" مع عدد من
القبائل العربية لمحاربة المسلمين في "المدينة" ، فقدموا إليها في عشرة
آلاف مقاتل ، وأقام النبي- صلى الله عليه وسلم- خندقًا حول "المدينة"؛
استجابة لرأى الصحابى "سلمان الفارسي" .
وقد عمل
المسلمون في حفر الخندق في ظل ظروف صعبة جدَّا ، فالجو كان في غاية البرودة، ولا
بد من إنجاز الحفر في أسرع وقت ، فقسم الرسول العمل على أصحابه، وجعل لنفسه نصيبًا
من العمل ، فكان يحفر معهم، ويحمل التراب بنفسه مثل باقي الصحابة .. وكان إذا رأى
من الصحابة تعبًا قام بتنشيطهم للعمل مردَّدا :
اللهم إن
العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة. وكانوا يجيبونه مرددين :
نحن الذين
بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا .
كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعمل ذلك العمل الشاق
وهو في السابعة والخمسين من عمره، ضاربًا المثل الأعلى والقدوة الحسنة لأصحابه ،
وأنه مثلهم يعمل كما يعملون، ويبذل جهدًا كما يبذلون .
وبفضل هذا
التعاون أتم المسلمون حفر الخندق في ستة أيام ، على الرغم من طوله واتساع عرضه
وعمقه ، وصلابة الأرض الصخرية التي تم الحفر فيها ، ولما جاء المشركون فوجئوا بهذا
الخندق ، واندهشوا من قدرة المسلمين على إنجاز هذا العمل الجبار في هذا الوقت
القصير وبهذه الأعداد القليلة !
·
التعاون سر نجاح هجرة النبي- صلى الله عليه
وسلم- :
هاجر النبي- صلى الله عليه وسلم- من "مكة"
إلى "المدينة" بعد تخطيط جيد ، وتعاون مثمر وقد عجزت
"قريش" بكل ما تملك عن منعه من مغادرة "مكة"
إلى "المدينة" ، وكانت "قريش".
قد
أعدت خطتها الشيطانية لقتل النبي- صلى الله عليه وسلم- ، فاختارت من كل قبيلة شابًّا قويًّا،
وأعطت كل فتى منهم سيفًا صارمًا ، ليقتلوه حين يخرج من بيته ، لكن الله نجاه وحماه
من أيديهم . ونجاح الهجرة قام على تعاون عدد من الرجال والنساء ، كان لكل منهم
دوره المرسوم الذي أداه بدقة ، وهم :
-
"أبو بكر الصديق" : اختاره النبي- صلى الله عليه وسلم- رفيقًا له في الهجرة
، وكان "أبو بكر" قد أعد راحلتين ( جملين ) للهجرة ، يحملانه هو
والنبي- صلى الله عليه وسلم- إلى "المدينة" .- "على بن أبى
طالب" : كان دوره أن ينام على فراش النبي- صلى الله عليه وسلم- ويتغطى بغطائه ، حتى يظن الواقفون على
باب بيت النبي- صلى الله عليه وسلم- الذين
يريدون قتله أنه لا يزال نائمًا، في الوقت الذي يكون فيه هو وصاحبه "أبو بكر
الصديق" قد خرجا من"مكة" في طريقهما إلى "المدينة" .
- "عبد
الله بن أريقط" : وقد استعان به النبي- صلى الله عليه وسلم- ليكون دليلاً له
في سيره إلى "المدينة" في طرق غير معروفة ، وكان خبيرًا في مسالك الطرق
أمينًا لا يفشى سرًا.
- "أسماء"
و"عائشة" ابنتا "أبى بكر الصديق" : كان دورهما أن يجهزا
الطعام الذي سيأخذه المهاجران في رحلتهما إلى "المدينة" ، وقد شقت
"أسماء بنت أبى بكر" نطاقها، وهو ماتشد به المرأة وسطها ، وربطت بأحد
الشقين الطعام الذي جهزته ، ولهذا سميت بذات النطاقين .
- "عبد
الله بن أبى بكر الصديق" : كان دوره أن يأتى بالأخبار التي يتداولها أهل
"مكة" إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه "أبى بكر"
ليلاً، وهما في غار ثور يختبئان من "قريش" .
- "عامر
بن فهيرة" : هو خادم "أبى بكر"، كان يرعى الغنم ، وكان دوره أن
يمحو بأغنامه آثار قدم "عبد الله بن أبى بكر"، وهو في طريقه إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه؛ حتى لا
يستدل على مكانهما أحد .
وقد ظل
النبي- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه
في الغار ثلاثة أيام، خرجا بعدها بعد أن يئس المشركون من العثور عليهما ، وخرج
بهما الدليل "عبد الله بن أريقط"، وسلك بهما طرقًا غير معروفة حتى دخلا
"المدينة" .
·
صور من التعاون :
يتعاون الأطفال كما يتعاون الكبار ، ويقدمون خدماتهم على قدر طاقتهم وجهدهم ، وكل
مجهود مهما كان صغيرًا يكون نافعًا ومفيدًا ، ومن
صور التعاون التي يمكن للصغار أن يقوموا بها :
- مساعدة
الوالدين في أعمال المنزل وتلبية طلبات الأسرة
.
- تنظيم حجرة نومك
وتنظيفها .
- المحافظة على البيئة
المحيطة بك والمرافق العامة .
- الحرص
على نظافة الشارع وجماله بعدم إلقاء المهملات فيه .
-
الاشتراك في الجمعيات المدرسية التي تخدم الطلاب وتقدم لهم العون .
- مساعدة
عجوز في عبور الطريق .
- إعانة
المحتاجين من زملائك بكل صورة ممكنة .
- نشر
الفضيلة والسلوك الطيب بين زملائك .
- تقديم
النصح لزملائك الذين يسلكون سلوكًا غير إسلامي.
·
فوائد التعاون :
- ازدياد
الروابط الأخوية بين الزملاء .
- إنجاز
الأعمال في أسرع وقت وفى صورة جيدة ، حيث يؤدى كل فرد ما يجيده ويحسن عمله .
- توفير
الوقت وتنظيم الجهد ، فبدلاً من أن يتحمل فرد واحد مسئولية إنجاز عمل ما،
فإنه يوزع على آخرين لإنجازه ، وهذا يعنى مجهودًا أقل ووقتًا أقل .
- إظهار
القوة والتماسك ، فالمتعاونون يصعب هزيمتهم ، مثلهم مثل العصا يمكن كسرها إن كانت
واحدة ، ويصعب كسر مجموعة من العصى المترابطة .
- نيل رضا
الله ، لأن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه .
- يد الله
مع الجماعة : فالله تعالى يكون معهم ، وما دام الله معهم فلن يخسروا ، ويكون
النجاح حليفهم .
- القضاء
على الأنانية وحب الذات ، حيث يقدم كل إنسان ما عنده ويبذله للآخر عن حب وإيمان . ·
أحاديث فى فضل التعاون :
قال رسول
الله- صلى الله عليه وسلم- :
-
"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" . (متفق عليه)
-
"الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" . (رواه مسلم)
-
"من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته" . (رواه البخارى)
-
"مثل المؤمنين في توداهم وتراحمهم كمثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له
سائر الجسد بالسهر والحمى" . (متفق عليه)