مُـنذأيام طفولتي : كنتُ فتىً ليس مثل بقية الفتيان ، بل أميل إلى الوقار والجدوالسكينة ، إذ صحبي وأقراني يتداولون الهزل الرخيص ، والكلام البذيء ،والشتائم ، ويحفظ أحدهم قائمة طويلة من الألفاظ العدوانية التي تتهم أعراضالناس ، وأنسابهم ، ويخلطونها بكذب ،
ولكني بقيتُ على عفاف اللسان ،والبراءة من الإقذاع ، والصدق،
ولاأذكر أبداً أنـي خنت أحداً ، أو كذبت عليه ، مع وفور الطاعة لأساتذةالمدرسة ، واحترام من هو أكبر مني ، وما كنتُ كسولاً ، بل أشارك أقرانيلعب الكرة ، والركض ، ولا أغيب عن السباحة ولا ليوم واحد في العطلةالصيفية ، وأنا سبّاح ماهر عبرتُ دجلة وعمري ثماني سنوات فقط دونالاستعانة بأحد ، يوم كان دجلة وافر المياه عريضا ، وتجوالي على الدراجةالهوائية يملأ نصف وقتي ، وكانت دارنا في الأعظمية بجنب بعض بقايا بستانأصلان باشا ، فشبعتُ في طفولتي من الرُطَب والنبق ، نرميه بالحجر أوالمصيادة فيقع ونلمّه ونأكله بلا غسل ، بل بالنفخ عليه ، ومع ذلك إذارجعتُ إلى البيت يضع شقيقي الأكبر مجلة الرسالة للزيات في يدي وآتي عليهامن الغلاف إلى الغلاف ، وأنا لا أفهم منها إلا قليلاً ، ولكنْ تترسب منهافي اللاشعور بعض معانيها ، فتَضاعفَ سَمْت الجدّ الذي فطرني الله عليه ،وما كان هناك تلفزيون يلهينا في ذلك الوقت ، بل كان افتتاح محطته في أواخرسنة 1954 بعدما جلبته شركة بريطانية إلى معرض بغداد ، فاشترته الحكومةمنها ، وكانت قضية فلسطين تلك الأيام في ذروة الاهتمام ، وانعكس ذلك علينافي صِبانا ، وحدثت مظاهرات إسقاط معاهدة بورتسموث ، فزاد انفعالُناوتداولُنا لحديث السياسة مبكراً ، وبدأت المطابع تنـتـج كتباً عن تاريخالحرب العالمية الثانية وقصص رومل وغيره ، فتضاعف اهتمامي ، حتى وجدت نفسيفي صفوف الدعوة وأنا ناشئ في المدرسة المتوسطة .
فأضافتالنقلة الدعوية حَفنـتين من الجد والصرامة إلى ما منـحتني إياه الفطرةوالظروف السياسية المتأججة ، بحيث يتداول معنا مربونا أخبار الدول ،والجهاد ، وأوصاف جـِنانٍ وفَراديسَ يحتلها الشهداء وأبطال القتال فيفلسطين وقناة السويس ، ثم لما سرنا مرحلة اُخرى ودفعونا إلى مجالس العلماءودراسة صحيح البخاري على الشيخ عبد الكريم الملقب بـ الصاعقة سَرَتْ إليناروح صواعقية تقلقنا عن الهزل والمزاح وكثرة الضحك ، ولما شرعنا نـحضر دروسوخطب الشيخ الدكتور تقي الدين الهلالي بدأنا نـُدرك اختلاف المدارسالاجتهادية الفقهية ، وانـحزنا لأقوال ابن تيمية ، وأصبحت لنا جولات عريضةمع مدونات ابن قيّم الجوزية ، إذ ما يزال أترابنا يسرحون ويمرحون ويقتربونمن باطل اللهو وينـحدرون إلى رخيص الآمال والقول ، وازدادت أشواقنا إلىالجنة لما وُضع في أيدينا حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم ،وبلاد الأفراح هي : الجنـّة ، لما فيها من خيرات تجلب السرور للمتـنعم بها، فزاد عُلوّاً مستوى اهتمامنا ، وصرنا خَلقاً آخر ، يسوقُنا طموح ،وتسيطر علينا رقابة ذاتية ، ونتج جيل من الشباب كأنهم شيوخ ، يتجردون فيعصرٍ ماديٍ كثيف الإغراء ، لكنّ مسارح الحلال بقيت واسعة علينا ، وكناأشدّ متعة بعواطفنا من مستعجل رَسَف في أغلال الدنيويات ، ونتج من هذاالتصاعد التدريجي استواءٌ لنا في فَلك الجد والمثـابرة الدائـبة ،وامتلكنا حصيلة من الأشواق الاُخروية ، والنظر إلى ثواب عند الله تـتضاءلعندما نتصوره ملذات الدنيا الحلال فضلاً عن الحرام ، لأن المهمة الإصلاحيةالتي حُـمِّـلنا إيّاها تجسمت لنا وأقنعتنا بأنها عملية ضخمة تـتطلب نذرالنفس ، وكثرة التعلّم والتفكر ، والجلوس المتكرر للنظر في مصالح المسلمين، ومن طول الوتيرة الجادّة : تحوّلت إلى سلوك تلقائي غير متكلف
هنا، وفي ثنايا هذا الاندماج القلبي الروحي مع المهمة الجبارة الدعوية بدأتتسري عندي حالة اجتهاد في تحديد المذهب الأخروي الذي يُسيّرني ويدفعني ،هي فرع من الاجتهادات الفقهية التي تـتمايز بها مذاهب الفقهاء ، وتشكلتلديّ وفي مُخيّلتي صورة الحياة التي اُريدها في الجنـّة ، وجعلت أقولنفسي : ويحك من مشترٍ لشيء مجاني مبذول...........